فصل: تفسير الآيات (67- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 61):

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويومَ القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله}، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه، كاتخاذ الولد والشريك ونفي الصفات عنه، {وجُوهُهُم مسودةٌ} بما ينالهم من الشدة والكآبة. والجملة: حال، على أن الرؤية بصرية، أو: مفعول ثان لها، إن كانت علمية. {أليس في جهنم مَثْوىً} أي: مقام {للمتكبرين} عن الإيمان والطاعة، وهو إشارة إلى قوله: {واستكبرت}، ولا ينافي إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النار أن يكون دخولهم فيها؛ لأجل أن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم؛ لأن كبرهم مسبب عنها.
{ويُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا} الشرك والمعاصي، أي: من جهنم. {بمفازتهم}: بفوزهم، مصدر ميمي، يقال: فاز بالمطلوب: ظفر به، والباء متعلقة بمحذوف، حال من الموصول، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب، أي: ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو: بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا، ولذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه: «بمفازتهم بالأعمال الحسنة». قال القشيري: كما وَقَاهم اليومَ من المخالفات، وحماهم، فكذلك غداً عن العقوبة وقاهم، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين، اليومَ عصمة، وغداً نعمة، واليومَ عناية، وغداً كفاية. اهـ.
{لا يمسُّهُم السوءُ ولا هم يحزنون}: إما حال أخرى من الموصول، أو: من مفازتهم وقيل: تفسير للمفازة، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء، أي: ينجيهم بنفي السوء والحُزن عنهم، فلا يمس أبدانَهم سوء، ولا قلوبَهم حزن.
الإشارة: ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله، بالدعاوى الباطلة، من القلوب الخاوية، فكل مَن ادعى حالاً ليست فيه، أو: مرتبة لم يتحققها، فالآية تجر ذيلها عليه، واسوداد وجوههم بافتضاحهم.
قال القشيري: هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً، ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله، ولم يتحققوا بها، وكفى بهم ذلك افتضاحاً، وأنشدوا:
ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت كَذَبْتَني ** فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا

فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا ** وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا

وينجي الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه، بسبب مفازتهم بمعرفة الله في الدنيا، لا يمسهم السوء، أي: غم الحجاب، لرفعه عنهم على الدوام، ولا هم يحزنون على فوات شيء؛ إذ لم يفتهم شيء؛ حيث فازوا بالله، «ماذا فَقَد من وجدك»؟
قال الورتجبي: بمفازتهم: ما كان لهم في الله في أزل أزله، من محبتهم، وقبولهم بمعرفته، وحسن وصاله، ودوام شهود كماله. لا يمسهم السوء: لا يلحقهم، فلا يلحق بهم في منازل الامتحان، تفرقة عن مقام الوصلة، وحجاب عن جمال المشاهدة، انظر تمامه. وحاصله: فازوا بإدراك السعادة الأزلية. وعن جعفر الصادق: بمفازتهم: بسعادتهم القديمة، يعني لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101].... الآية. قاله المحشي الفاسي.

.تفسير الآيات (62- 66):

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}
يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ خالقُ كُلّ شيءٍ}: جامد أو حي، خير أو شر، إيمان أو كفر، لا بالجبر، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة، وفيه إثبات القدرة والعلم، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر، لمحسن أو مسيء. قال القشيري: ويدخل تحت قوله: {كل شيء} كسبُ العباد، ولا يدخل كلامُه؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته. اهـ. والمراد بالكلام: المعاني القديمة، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة، كما هو مقرر في محله. {وهو على كل شيءٍ وكيل} أي: حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء.
{له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ} أي: مفاتح خزائنها، واحدها مِقْليد، أو: إقليد، أو: لا واحد لها، وأصلها فارسية، والمراد: أنه مالكها وحافظها، وهو من باب الكناية؛ لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيتْ إليه مقاليد الملك، أي: مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها.
وعن عثمان: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد، فقال صلى الله عليه وسلم: «هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير» ومعناه: أن لله هذه الكلمات، يُوحّد بها ويُمجّد، وهي مفاتحُ خير السماوات والأرض، ومَن تكلّم بها أدرك ذلك في الدنيا أو في الآخرة، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية في الظاهر، ومعرفة الذات في الباطن، وهما السبب في كل خير، وبهما يدرك العبد التصرُّف في الوجود بأسره، فتأمله.
{والذين كفروا بآيات الله} أي: كفروا به بعد كونه خالق كل شيء، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس، والتنزيلية، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك، {أولئك هم الخاسرون} خسراناً لا خسرَ وراءه، وقيل: هو متصل بقوله: {ويُنجي الله الذين اتقوا}، وما بينهما اعتراض.
{قُلْ أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون} به، وكانوا يقولون له: أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك؛ لفرط جهالتهم. {وغير}: منصوب ب أعبد، و{تأمروني}: اعتراض، أي: أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام؟ وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة، كُلٌّ قرئ به.
{ولقد أُوحيَ إِليك وإِلى الذين من قبِلكَ}: من الأنبياء عليهم السلام: {لئن أشركتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ ولَتكُونَنَّ من الخاسرين}، كلام وراد على طريق الفرض، لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو: الخطاب له، والمراد غيره.
وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة، باعتبار خطاب كل واحد في عصره، واللام موطئة لقسم محذوف، والثانية لام الجواب، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم؛ لأن الإشراك منهم أشد، وأن يكون مقيداً بالموت، كما صرح به في آية البقرة، وهو مذهب الشافعي، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة، مات عليها، أو رجع إلى الإسلام، فينتقض وضوؤه وصومُه. وما قاله الشافعي أظهر.
{بل اللهَ فاعبُدْ}، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته؛ بل إذا عبدت فاعبد الله، فحذف الشرط، وأقيم تقديم المفعول مقامه. {وكن من الشاكرين} على ما أنعم به عليك؛ حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين.
الإشارة: الله مُظهر كل شيء؛ حيث تجلّى بها، وهو قائم بكل شيء. له مفاتيح غيوب السماوات والأرض، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه، الذين هم آيات من آياته. والذين كفروا بآيات الله، الدالة على الله، وهم أولياء الله، أولئك هم الخاسرون، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول؛ إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره، أو مداهنة غيره، قال: {أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون}. {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت} بأن طالعت غيري في سرك، أو تشوّفت أن يعلم الناس بخصوصيتك {ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد} واكتفِ به، واقنع بعلمه، واغتنِ بشهوده. {وكن من الشاكرين} على ما أولاك من سر خصوصيته.

.تفسير الآيات (67- 67):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما قَدرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِه} أي: ما عظَّموه حق تعظيمه؛ حيث جعلوا له شريكاً، أو وصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة، أو: حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى، أو: ما عرفوه حق معرفته، حيث لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى. قال ابن عباس: فمَن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. يقال: قدرت الشيء: إذا حزرته لتعرف مبْلغه، والقدر: المقدار. والضمير، إما لقريش، المحدث عنهم، وقيل: لليهود، حيث تكلّموا في صفات الله تعالى، فألحدوا وجسّموا.
ثم بيَّن لهم شيئاً من عظمته تعالى، فقال: {والأرضُ جميعاً قبضَتُه يومَ القيامةِ والسماواتُ مطويات بيمينهِ}: ف {جميعاً}: حال من الأرض؛ لأنه بمعنى الأرضين، أي: والأرضون جميعاً مقبوضة له بقدرته يوم القيامة. {والسماوات مطويات بيمينه} أي: بقدرته. والقبضة: المرة من القبض، والقُبْضة: المقدار المقبوض بالكف، والمراد من الكلام: تصوير عظمته تعالى، والتوقيف على كنه جلاله، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شيء هين، على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة، ولا مجازاً، هكذا قال جمهور المفسرين.
قلت: لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها، فإن الله تعالى يُبدل الأرض ويجمعها بأجمعها، فتكون كخبزة النقي، ويطوي السماء كطي الكتاب، حتى يبرز العرش، كما في الحديث، ففي حديث البخاري، عن أبي سعيد الخدري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرضُ يومَ القيامة خبزةً واحدةً، يتكفؤُها الجبارُ بيده، كما يتكفؤُ أحدُكم خُبْزَته في السفر، نُزُلاً لأهل الجنة» وفي حديث أبي هريرة: «إن الله يقبض الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض».
وقال ابن عمر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وهو يحكي عن ربه تعالى، فقال: «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته، ثم قال هكذا، وشدّ قبضته، ثم بسطها، ثم يقول: أنا الله، أنا الرحمن...» الحديث. وفي لفظ آخر: «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا لملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟» وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «كل ذلك في يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولُ بيمينه، وما السماوات السبع، والأرضون السبع، في يد الله تعالى، إلا كخردلة في يد أحدكم، ولهذا قال: {مطويات بيَمينِهِ}: يعني السماوات والأرضين كلها بيمينه» قلت: من كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لا تصعب عليه هذه الأمور؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشاكل الآدمي في الأعضاء كلها، فيكون له ذات لها يدان وقدمان، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النار، فتقول: قط قط، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف، ويتقدمهم للجنة، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث.
ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم، إنما هي تجليات للذات الكلية المطلقة، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين، فسلِّم تسلَم.
{سبحانه وتعالى عما يشركون} أي: تنزيهاً عظيماً لمَن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء، أي: ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!
الإشارة: ما عرف لله حق معرفته مَن أثبت الكائنات معه، وهي ممحوة بأحدية ذاته، لا وجود لها معه على التحقيق، فالأرض قبضة أسرار ذاته، والسماوات محيطاتُ أفلاك أنواره، وبحر الذات مطبق على الجميع، ماحٍ للكل، وأنشدوا:
فالكلُّ دونَ اللهِ إِنْ حققتَه ** عدمٌ على التفصيل والإجمالِ

واعلمْ بأنك والعوالِمَ كلَّها ** لولاه في محوٍ وفي اضمحلالِ

مَن لا وجودَ لذاتِه من ذاتِه ** فوجودُه لولاه عينُ مُحالِ

وقال آخر:
مَن أَبْصَرَ الخلقَ كالسَّراب ** فقد تَرَقَّى عن الحِجَابِ

إِلى وُجودٍ تراه رَتْقاً ** بلا ابتعادٍ ولا اقْترابِ

.تفسير الآيات (68- 70):

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ونُفخ في الصُّورِ} النفخة الأولى {فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض} أي: خرّ ميتاً، أو مغشياً عليه، {إِلا مَن شاء اللهُ} قيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يُميتهم الله بعد ذلك، وقيل: حمَلَة العرش، وقيل: خزَنة النار والجنة.
{ثم نُفخ فيه أُخرى} هي النفخة الثانية. و{أخرى}: في محل الرفع صفة لمحذوف، أي: نفخ نفخة أخرى، {فإِذا هم قيام} من قبورهم، حال كونهم إذا فاجأهم خطب {ينظرون}؛ يُقلبون أبصارهم في الجوانب الأربعة، كالمبهوتين، أو: ينظرون ما يفعل بهم، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان؛ للموت، والبعث، وقيل: ثلاث؛ للفزع، والموت، والبعث.
{وأشرقت الأرضُ}؛ أضاءت {بنور ربها} حين يتجلّى لفصل عباده، فتُشرق الأرض أي: عرَصَات القيامة بنور وجهه، ويقال: إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض، فتشرق به. قال في الحاشية الفاسية: وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة، وانتصر له الطيبي، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة، قال: وما تعسف الزمخشري، من حمل النور على العدل، إلا فراراً من ذلك. اهـ. قال القشيري: هو نور يخلقه في القيامة، عند تكوير الشمس، وانكدار النجوم، ويستضيء به قومٌ دون قوم، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة، والمؤمنون: {يَسْعَى نُورُهُم} [الحديد: 12] الآية. ويقال: غداً إشراق الأرض، واليوم إشراق القلب، غداً أنوار التولي، واليوم أنوار التجلي. اهـ.
وقال السدي: بعدله، على الاستعارة، يقال للملك العادل: أشرقت الأرض بعدله، كما استعيرت الظلمة للظُلم. وفي الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة».
{ووُضِع الكتابُ} أي: صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس، أو: كتاب المحاسبة والجزاء. {وجيء بالنبيين} ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، {والشهداء} أي: الحفظة، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم، أو: الذين استُشهدوا في سبيل الله. {وقُضِيَ بينهم}: بين العباد {بالحق وهم لا يُظلَمُون} بنقص ثواب، أو زيادة عقاب، قال ابن عطية: الضمير في {بينهم} عائد على العالم بأجمعه. اهـ. فيقتضي دخول الملائكة، ويتصور القضاء في حقهم، من حيث جعلوا حفظة على العباد، وأمناء على الوحي والتبليغ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم، وترقيهم في علومهم، وتفاوتهم في ذلك. وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور، مع علمه تعالى خلافه، مما لا اطلاعَ لهم عليه. قاله في الحاشية.
{ووُفِّيت كلُّ نفسٍ} جزاء {ما عملَتْ وهو أعلم بما يفعلون} فلا يفوته شيء من أفعالهم. ومضمون الآية: تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك، من إحضار الشهود وخواص حضرته، حين يبرز لذلك، ويشهده الظالم والمظلوم، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه، ثم من لوازم ذلك العدل.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية إشارة للفناء والبقاء، فيصعق العبد عن رؤية وجوده، ثم يبقى بربه، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق، ثم يشرق العالم كله. قال الورتجبي: نفخة الصعق قهرية جلالية، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله في أنوار جلاله، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله: {وأشرقت الأرضُ بنور ربها} فيتجلّى للخواص، ثم تستضيء بأنوارهم أرض المحشر، للعموم والخصوص، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن، أو أن يكون محلاًّ للحدثان، يا عاقل، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مستغرقة في أنوار إشراق آزاله وآباده. ثم قال عن بعضهم: (إلا مَن شاء الله) هم أهل التمكين، مكّن الله أسرارهم من تحمُّل الواردات.